غزة- وحشية مصوّرة، عالم متقاعس، وإبادة مستمرة

المؤلف: حُسام شاكر09.04.2025
غزة- وحشية مصوّرة، عالم متقاعس، وإبادة مستمرة

إننا نشهد حربًا ضروسًا تتكشّف للعالم أجمع، فظائعها الصارخة تُبث بأبهى الألوان على مدار الساعة، تغمرنا سيول جارفة من الصور والمشاهد والمقاطع المصورة والبث الحي المتواصل منذ اللحظات الأولى. لقد كان من المفترض أن تستنفر هذه الشهادات البصرية ضمير "المجتمع الدولي" وتوقظ وجدان قادة الأمم وصناع القرار في شتى بقاع الأرض.

هذا ما كان مأمولًا حتى مع وضع تأثير الصور والمشاهد "المفجعة" جانبًا، وهي التي تُعَدّ "معضلة" على صعيد التداول والتأثير العميق، إذ لا تنقطع صور الأطفال الرُّضّع المذهولين وهم يُنتَشلون أحياءً من تحت الأنقاض، أو جموع الأطفال الذين أنهكتهم سياسة التجويع الوحشية التي تتواصل شهرًا بعد شهر، أو مظاهر الموت البطيء في المستشفيات التي تفتقر إلى الدواء والتجهيزات الضرورية، والتي تستهدفها الغارات الجوية والتخويف بين الفينة والأخرى.

تقف براهين غزة المصورة دليلًا قاطعًا على عالم متخاذل لم يبدِ أيَّ تحرُّك جادٍّ في مواجهة الفظائع التي تتحدى القانون الدولي وتُسقِط مواثيق الأمم والمبادئ الإنسانية والأخلاقية، على الرغم من صرخات الجماهير التي أثارتها مشاهد الإبادة واستفزتها الأعمال الوحشية، ومن المشروع لهذا التقاعس المشهود أن يثير أسئلة حارقة حول مدى المساواة في قيمة الحياة والكرامة والحقوق بين البشر في هذا العالم المترابط.

صور مُختلَقة وأخرى مُهمَلة

تتجلى حرب الإبادة الشرسة الدائرة على أرض قطاع غزة كشاهد حي على ظاهرة التزييف والتهويل المُصوَّر، المصاحبة لتجاهل وقائع مصورة أخرى على الرغم من أنها لا تقبل الشك أو التفسير المتحيز.

الأمثلة على ذلك وفيرة، مثل الصورة المزيفة التي روجتها آلة الدعاية التابعة للاحتلال، والتي ادعت أنها لجثة طفل متفحمة أضرم فيها الفلسطينيون النيران في مستوطنة متاخمة لقطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023.

استُخدمت تلك الصورة الملفقة وأمثالها المحرَّفة كذخيرة حية في حملة تحريض ضارية لتبرير الإقدام على الإبادة الشرسة في غزة، وتجريد الشعب الفلسطيني من إنسانيته. بيد أن المنصات السياسية والإعلامية ذاتها، وبعضها ذائع الصيت ومتصدر في العالم، لم تلقِ بالًا لوفرة هائلة من الوقائع المصورة والمشاهد المتلاحقة التي أقدم فيها جيش الاحتلال على حرق أجساد أطفال ورضع في مختلف أنحاء قطاع غزة، وتكاثرت فيها الأجساد المتفحمة التي تستثير أعمق المشاعر الإنسانية.

لا يقتصر التحيز في هذا السياق على ازدواجية التلفيق والتهويل من جهة، وغض الطرف وعدم الاكتراث من جهة أخرى، بل يتصل الأمر بحرمان الضحية الفلسطينية من الاعتراف بوجودها وبحقيقة مأساتها بشكل عام، وعزل هذه المأساة، إن ورد ذكرها، عن الفاعل المحتل الذي تسبب بها، لتصبح الوقائع بلا فاعل معروف أو "مبنية للمجهول"، إذا كان الفاعل إسرائيليًا، كما يتجلى ذلك في صياغة العناوين التي تأتي فاترة في الغالب، استخدام كلمة "موت" بدلًا من "قتل" على سبيل المثال، مقارنة بالعناية الفائقة التي يحظى بها جمهور الاحتلال نسبيًا إذا ما تعرض لأي مكروه مُفترَض.

كما يتجلى التحيز في تجنب لفت الانتباه نحو حقيقة إحراق الأطفال والمدنيين الفلسطينيين وشيّ أجسادهم الغضة بنيران الجيش الذي يصبها فوق خيامهم على مدار الساعة، وهذا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحصانة سرديات دعائية مركزية يحتكرها الاحتلال بشكل لا يسمح بالإشارة إلى وقائع حرق أطفال غزة تحديدًا، حتى عندما تتكاثر صورها ومقاطعها المصورة المنقولة من الميدان.

لا يمكن فهم هذه المفارقة بمعزل عن حقيقة أن المركزية الغربية المعولمة تستطيع، من خلال آليات عملها وتأثير منصاتها السياسية والإعلامية والثقافية، احتكار الاهتمام العالمي تقريبًا بوقائع معينة واستدرار التعاطف بشكل انتقائي وفقًا لتقاليد التحيز المعهودة.

وحتى إذا تمكنت بعض المشاهد والتطورات من فرض حضورها على الرغم من ذلك، فإنها تحظى حينها بجرعات تعاطف محسوبة من قِبَل المتحكمين في الإيقاع، وهي لا تُقارن بالبكائيات المطولة التي تُفتعل لو كان الضحايا المفترضون من جمهور الاحتلال أو من فئات بشرية أخرى، أوروبية أو غربية على سبيل المثال.

بات واضحًا من واقع المقارنات الوفيرة المتاحة أن منطق التحيز المركزي الغربي يضع بشرًا فوق بشر في مستوى الاهتمام والتعاطف، وأنَّ هذا المنطق المعولم في نفوذه وتأثيره وامتداداته متورط في توفير غطاء معنوي طويل الأمد لاستباحة دماء الفلسطينيين وأرواحهم وكرامتهم الإنسانية عامًا بعد عام على مرأى ومسمع من العالم.

يجري ذلك بمزيد من التحايل من خلال تقليل الاهتمام بما يقع عليهم وكبح الانفعال العالمي تجاههم، وتوفير سرديات تبريرية استباقية تتبعها استجابات لفظية متراخية بعد انكشاف آثار الأعمال الوحشية المروعة، مع الالتزام بالامتناع عن تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، فما يجري لا يستحق أن يطلق عليه إبادة أو فظائع أو تطهير عرقي أو سياسة تجويع، فضلًا عن أن يُوصَم بالإرهاب.

أهوال مُذاعة من معسكر التجويع

تتزاحم الوجوه الشاحبة والأجساد النحيلة في تجمعات غفيرة طلبًا لكسرة خبز أو رشفة ماء أو وجبة بسيطة تبقي الحياة في عروقها، وقد لا يحظون بما يأملون بعد طول انتظار مُنهِك. أطفال ورضع يموتون جوعًا وأقران لهم ينتظرون دورهم على قائمة الهلاك المرتقب تحت سمع العالم وبصره. نساء حوامل في أوضاع حرجة بلا رعاية أساسية أو عناية بالمواليد الجدد أو حماية للخُدّج منهم.

إنها أهوال متفاقمة لم تصنعها كارثة طبيعية أو أزمة جفاف على سبيل المثال، بل هي تجليات مرئية لسياسة وحشية مُبرمجة بعناية كي تسلب شعبًا من المستضعفين في الأرض رمق العيش وأنفاس الحياة ومقومات البقاء وتساومهم على حقوقهم الأساسية ووجودهم في بلادهم وكرامتهم الإنسانية.

هل كان من المتصور أن تجرؤ أي حكومة أو جيش في العالم على شن حرب تجويع مديدة على شعب بأكمله يقع في مركز الكوكب وعلى خاصرة البحر الأبيض المتوسط، مع المجاهرة بذلك رسميًا والإصرار عليه والتفاخر به، بالتزامن مع استمرار الدعم العسكري السافر والمساندة السياسية الواضحة والإمداد الاقتصادي السخي من عواصم القرار الغربي، والتغافل الجلي على مستوى العالم العربي أيضًا؟

لقد أصبحت هذه الفظاعة واقعًا مرئيًا بالألوان والمشاهد الحية مع كل هذه الوحشية المبرمجة التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، أو بالأحرى ضد مجتمع أغلبه من الأطفال والأمهات بأمعاء خاوية في معسكر إبادة وتجويع مُحكم الإغلاق، تنهش قاطنيه قذائف القتل المنهمرة فوق رؤوسهم على مدار الساعة، بحضور البث المباشر.

تفرض هذه المشاهد المنقولة يومًا بعد يوم تساؤلات حارقة في أفق التغطيات الإخبارية والمنصات الإعلامية والمواكبة السياسية والمدنية حول العالم.

صار مؤكدًا الآن أن عالمنا مؤهل لاحتمال كل هذه الأهوال، وإبداء التهاون معها، وغض الأنظار عنها، ومنحها الغطاء الزمني الطويل كي تتواصل وتتفاقم بلا قيد أو كابح، شريطة أن تمس قومًا بأعينهم دون نبلاء الكوكب، وأن يمارسها من يمنحون حصانة من المساءلة والمحاسبة ويوضعون واقعيًا فوق القانون الدولي وهيئاته ومحاكمه. فالخلاصة والاستنتاج الشائك أن الموقف الدولي من الجريمة ليس موضوعيًا، فهو يتحدد طبقًا لامتيازات الجاني وهوية ضحاياه.

سقطت انطباعات سادت من قبل بأن التمكن من رصد الوحشية بالصور ونقل مشاهدها عبر البث المباشر وتوثيقها في تقارير رصينة كافٍ لانتفاض العالم ضدها، وردع القائمين عليها، وزجر داعميهم عن مواصلة المساندة الآثمة.

فهذه الوحشية المصورة وجدت من تزاحموا لدعمها علنًا، ومنهم من أطلق وعيدًا متكررًا يقضي بـ"فتح أبواب الجحيم"، وتوفرت للإبادة والتدمير والتشريد والتجويع سرديات التبرير الاستباقية، بزعم أنها تندرج ضمن "حق إسرائيل المؤكد في الدفاع عن نفسها".

ويبلغ التحايل ذروته في سلوك التساهل والتجاهل وغض الطرف والاكتفاء بإظهار القلق وإطلاق مناشدات خجولة أو ردود فعل فاترة، بخلاف ما سيكون عليه الحال لو صُبت هذه الأهوال على شعوب أخرى، بيضاء مثلاً، أو من شمال غرب الكوكب، أو لو أن مقترف هذه الوحشية المصورة دولة أو كيان مغاير لقاعدة الاحتلال والاستيطان في فلسطين.

عندما يتآكل مفعول الفظائع المصورة

ثمّة مفارقة يمكن العثور عليها بمراجعة محطات زمنية تعاقبت على المكان عينه. فقد حققت مشاهد استثنائية شهيرة استجابات ملحوظة خلال جولات عدوان سابقة شنها جيش الاحتلال على قطاع غزة، من قبيل مشهد قصف مدرسة الفاخورة في شمال قطاع غزة خلال شتاء 2008/2009، أو مشهد قتل جيش الاحتلال أربعة أطفال من آل بكر وهم يلهون على شاطئ غزة في صيف 2014، أو مشهد قصف برج الجلاء بالمدينة خلال عدوان 2021 وانهيار المبنى الشاهق الذي ضم مكاتب وكالات ومحطات إعلامية دولية.

حسمت الكاميرا الحاضرة في موقع الحدث الموقف حينها عندما أظهرت فظاعة استثنائية حركت ردود أفعال عالمية، واستنفرت الضغوط على الاحتلال لكبح حربه العدوانية رغم توفير غطاء استباقي لها أيضًا.

لكن وفرة الفظائع المصورة التي تلاحقت على مدار الساعة في موسم الإبادة المديد نزعت خاصية المشهد الاستثنائي وجعلته "اعتياديًا"، أو مستساغًا ما دام أنه يمس قومًا من غير محظيي الكوكب.

تثير هذه الشبهة الحارقة تساؤلات شائكة حول قابلية الذائقة البصرية العالمية للتكيف مع اقتراف فظائع معينة، بفعل التوالي والاعتياد وفقدان امتياز الندرة والاستثناء، وكأن الاحتلال قام "بتربية العالم" على التطبع مع كل هذه الأهوال الرهيبة التي تتدافع وتتفاقم تحت الأسماع والأبصار، بعد أن كان مشهد واحد "نادر" منها كفيلًا بأن يقض مضاجع العالم ويستثير تصريحات "الإعراب عن الأسى والصدمة".

وعندما تبدي المنصات السياسية والإعلامية المتصدرة عالميًا فتورًا إزاء هذه الفظائع المرئية، ولا تمنحها اكتراثًا لائقًا بمنسوبها أو جرعة وجدانية مصاحبة، قد يتولد انطباع ساذج في أوساط عريضة بأنها لا تستحق الاهتمام، أو لا تكفي لاستثارة العاطفة، ولا تستدعي تحرك الضمائر والمواقف المتصلبة.

إنه منطق الوحشية المستساغة، كما تتجلى مع تدفقات الأهوال المصورة التي حظيت مسبقًا بالتبرير المتذاكي والدعم العلني والإسناد السخي من حكومات وأوساط فاخرت بالانتساب إلى "العالم الحر"، وتقمصت الرفعة الأخلاقية، دون اعتذار العواصم والنخب المعنية عن ضلوع تلك المواقف في تحفيز المقتلة الرهيبة والتدمير الشامل والتجويع الوحشي بلا هوادة.

يتعين التحذير من الرضوخ لمنطق الاعتياد والتكرار في تخفيض مستوى الاهتمام، فعلى الرغم من أن ذلك قد يبدد امتياز الندرة ويسقط فرصة الاستثناء ويضعف استثارة الصدمة والذهول إزاء الفظائع المصورة المتوالية التي صارت "معتادة"، فإن بعض المعالجات المتاحة تبقى مؤهلة لتعديل الموقف بما يتوافق مع السوية الإنسانية والحس السليم.

يأتي من ذلك، على سبيل المثال، التركيز على تفاصيل معينة وتسليط الأضواء على حالات فردية واستخلاص قصص من الواقع على نحو يحفز الإحساس بما يجري ومواكبته وجدانيًا واكتشاف وجوه وأسماء ماثلة ضمنه.

ويبقى الرهان المركزي في هذا الشأن على استنفار استجابات طارئة وتوليد ردود أفعال متحفزة عبر الإقليم والعالم، تطلق صرخاتها المدوية لإيقاظ الضمائر وتحريك المواقف، على نحو يضغط بصفة جادة وجريئة على صانعي القرار وأصحاب النفوذ في كل البيئات من أجل التصرف الجاد والتحرك الفوري، وتحميل صمتهم وتراخيهم وتقاعسهم مسؤولية ضمنية عن استدامة الوحشية المرئية التي يتساهلون معها.

من العدل الإقرار بأن لوحشية الإبادة والتجويع المصورة حلفًا دعمها وبررها وشجعها بالتواطؤ المباشر أو غير المباشر، وحفزها بالإسناد الصريح أو السكوت الآثم أو المواقف الباهتة.

على أن الانتقادات الفاترة والمناشدات الرخوة متورطة أيضًا في تمرير هذه الوحشية وإفساح الطريق لها كي تتواصل بلا هوادة، مع إظهار التبرؤ الشكلي من الإبادة المدعومة ببعض الانتقادات الجوفاء.

يفعل التراخي المستدام فعله بإغراء الاحتلال بالتمادي والإسراف في الوحشية، ويمنح الانطباع بأن الأهوال الجارية تحت الأسماع والأبصار لا تستحق ردودًا صارمة أو خطوات عقابية، بل يكفي معها تدبيج بلاغات الإعراب الفاتر عن القلق وإظهار انشغال مزيف بـ"الأوضاع الإنسانية الصعبة"، وقد فهمت حكومة الإبادة الفاشية هذه الاستجابات المتواطئة أو الخجولة على أنها ضوء أخضر يتيح لها مواصلة نهجها الوحشي بلا اعتراضات جادة أو عقوبات رادعة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة